الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان تنظم فعالية مشتركة بمجلس حقوق الإنسان حول المسؤولية الاقتصادية للدول في سياق الاحتلال والإبادة الجماعية
الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان تنظم فعالية مشتركة بمجلس حقوق الإنسان حول المسؤولية الاقتصادية للدول في سياق الاحتلال والإبادة الجماعية
جنيف، أكدت فعالية مشتركة في مجلس حقوق الإنسان حول المسؤولية الاقتصادية للدول الثالثة في سياق الاحتلال والإبادة الجماعية في الأرض الفلسطينية المحتلة، نظمتها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم"، أن المساءلة عن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لا يمكن أن تتوقف عند حدود الدول، بل يجب أن تشمل أيضاً الشركات والدول الثالثة التي تمكّن وتستفيد من هذا الواقع، خاصة مع تصاعد الزخم القانوني من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فإن المسؤولية الآن تقع على عاتق الدول والمؤسسات والأفراد لمواجهة البُنى الاقتصادية التي تُبقي على نظام الفصل العنصري والاحتلال والإبادة الجماعية.
وشددت الفعالية الجانبية التي نظمتها الهيئة بالتعاون مع مؤسسة القانون من أجل فلسطين ومنظمة هيومن رايتس ووتش، ضمن الدورة التاسعة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، على أن وقت الحلول الرمادية قد انتهى وأن التغيير الحقيقي لن يأتي إلا من خلال الضغط الجماعي، والتحرك القانوني المنسّق، والشجاعة الأخلاقية لمواجهة كل أشكال التواطؤ.
وتحدث في الندوة، أنيشا باتيل عضوة مجلس الإدارة في منظمة القانون من أجل فلسطين، وسام أحمد، مدير مركز القانون الدولي التطبيقي في مؤسسة الحق، فرانشيسكا ألبانيزي المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، دان دي غرفت كبير المسؤولين القانونيين في المركز الأوروبي للدعم القانوني.
وحضر الفعالية التي أدارها الدكتور عمار الدويك مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ممثلو عدد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، من بينها سويسرا، البرتغال، النرويج، بلجيكا، كندا، سنغافورة، فنزويلا، المالديف، هولندا، بنما، تركيا، لبنان، ألمانيا، إيرلندا، والنمسا، بالإضافة إلى ممثلين عن منظمات المجتمع المدني وخبراء في القانون الدولي.
وقد ناقش المتحدثون الالتزامات القانونية للدول الثالثة والجهات الفاعلة من القطاع الخاص بموجب القانون الدولي، مع التركيز على الدور المحوري للهياكل الاقتصادية في دعم أنظمة الاحتلال والفصل العنصري والإفلات من العقاب.
الكلمة الافتتاحية
افتتح الدكتور عمار دويك النقاش بالتأكيد على أن الدفاع عن حقوق الإنسان لا يمكن فصله عن الأنظمة الأوسع -الاقتصادية والقانونية والسياسية- التي تُمكِّن من انتهاك حقوق الإنسان، موضحاً أن أزمة حقوق الإنسان المستمرة في فلسطين ليست مجرد نتيجة لعمليات عسكرية، بل هي نتاج منظومة ممنهجة من العنف البنيوي، تشترك في دعمها أطراف حكومية وغير حكومية، بما في ذلك دول ثالثة وشركات خاصة تستمر في دعم السياسات الإسرائيلية من خلال الوسائل الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية.
وأشار الدويك إلى التقرير الذي نشرته مؤخراً المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي بعنوان "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية"، والذي خلص إلى أن الشركات الخاصة التي تعمل في مناطق النزاع لا يمكنها التذرع بالحياد أو الجهل لحماية نفسها من المساءلة. واعتبر أن هذا التقرير يعيد صياغة النقاش حول المساءلة، ليشمل التواطؤ الاقتصادي في الانتهاكات.
مسؤوليات الدول الثالثة القانونية بموجب القانون الدولي
سلّطت أنيشا باتيل الضوء على التزامات الدول بموجب القانون الدولي، ولا سيما في ضوء الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في عام 2024، وأوامرها في قضية جنوب أفريقيا، حيث وجدت أن هناك احتمالاً معقولاً بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية. وأكدت أن على الدول ألا تكتفي بمساءلة مؤسساتها فحسب، بل يجب عليها أيضاً تنظيم سلوك الشركات والأفراد الخاضعين لولايتها القضائية، بمن فيهم أولئك الذين لهم نشاط في الخارج.
واستعرضت باتيل ثلاث واجبات أساسية أكّدتها محكمة العدل الدولية: أولاً، الالتزام الإيجابي بإنهاء الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة (بما في ذلك من خلال فرض عقوبات مستهدفة)؛ ثانياً، الالتزام السلبي بعدم الاعتراف أو تقديم الدعم للاحتلال، خصوصاً عبر العلاقات الاقتصادية؛ وثالثاً، الالتزام بعدم المساعدة أو المشاركة في استمرار الوضع غير القانوني.واختتمت باتيل مداخلتها بالتأكيد على أن العلاقات الاقتصادية -سواء على المستوى العام أو الخاص- تلعب دوراً محورياً في استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، ولذلك ينبغي تعليقها بما يتماشى مع الالتزامات القانونية للدول بموجب القانون الدولي.
الاستعمار المستمر والحصانة التي تتمتع بها الشركات
وضع وسام أحمد الوضع القائم في سياقه التاريخي الأوسع، واصفاً استعمار إسرائيل لفلسطين بأنه استمرار لممارسات استعمارية استيطانية، أصبحت مع مرور الوقت معتمدة بشكل متزايد على مشاركة القطاع الخاص. واستشهد بوثيقة صهيونية تعود إلى عام 1925، ناقشت ما إذا كان ينبغي أن يتم استعمار فلسطين بوسائل خيرية أم كمشروع ربحي، ليؤكد أن الدوافع الاقتصادية كانت جزءاً أصيلاً في المشروع الصهيوني منذ بداياته، مشيراً إلى أنه بعد احتلال عام 1967، أصبح ترسيخ السيطرة الإسرائيلية أكثر ارتباطاً بالأدوات الاقتصادية، مشيداً بتقرير فرانشيسكا ألبانيزي لدوره في تسليط الضوء على الطابع البنيوي لهذا التورط الاقتصادي، وكشف الآليات التي تسمح باستمرار الانتهاكات.
كما تناول أحمد الفجوة المستمرة في القانون الدولي فيما يتعلق بالجهات الفاعلة من القطاع الخاص، والتي غالباً لا تخضع لنفس المعايير القانونية المفروضة على الدول. ولفت إلى غياب التقدم الفعلي نحو وضع معاهدة ملزمة عبر الفريق العامل الحكومي الدولي التابع للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان. وعلى المستوى المحلي، أشار إلى وجود عوائق قانونية مثل سلطة الادعاء العام التقديرية في القضايا الجنائية، ومبدأ الاحترام المتبادل بين الدول في القضايا المدنية، مما يشكل عقبات إضافية أمام تحقيق العدالة. واختتم مداخلته بسؤال حاسم: "نعلم أن ذلك ممكن، ولكن أين الإرادة السياسية لتحقيقه؟"، مؤكداً أن تحقيق العدالة يتطلب إصلاحات قانونية على المستويين الدولي والمحلي، إلى جانب حراك شعبي ضاغط وجاد.
لحظة حاسمة لمصداقية القانون الدولي
تناولت فرانشيسكا ألبانيزي في مداخلتها الوضع الحالي باعتباره يمثل لحظة فاصلة للمجتمع الدولي. وطرحت تساؤلات حول مصداقية المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، متسائلة عن جدواها إن كانت غير قادرة على وقف الفظائع الجارية في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. وحذّرت من أن المفاهيم الأساسية للقانون الدولي والعمل الإنساني باتت مهددة، إن لم تُطبَّق بشكل شامل ونزيه، واصفة الوضع في غزة بأنه "فخٌّ للموت"، وانتقدت ما يسمى بالممرات الإنسانية واعتبرتها جزءاً من مشروع إجرامي مشترك يكرّس الضرر بدلاً من أن يخففه. وأكدت أن القضية الفلسطينية تفضح الفشل الهيكلي العميق في النظام الدولي، داعيةً إلى امتلاك الشجاعة لتفكيك البُنى التي مكّنت هذا الظلم المستمر.
وشددت ألبانيزي على أن الاحتلال لا يُدعَم من قبل الدول فحسب، بل من خلال شبكة من الفاعلين غير الحكوميين -كالشركات والجامعات والبنوك وصناديق التقاعد والمؤسسات الخيرية- الذين استفادوا تاريخياً من "سياسات التهجير والاستبدال" التي اعتبرت بأنهما الركيزتان الاقتصاديتان للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
وفي ضوء استنتاجات محكمة العدل الدولية التي تشير إلى احتمال ارتكاب إسرائيل لجريمة إبادة جماعية، والدعوات المتزايدة لتفكيك الاحتلال، والإجراءات الجارية في المحكمة الجنائية الدولية، أكدت ألبانيزي أن الشركات لم يعد بإمكانها الادعاء بالحياد أو الجهل. ويجب مساءلة كل من يساهم أو يستفيد من هذه الجرائم. وختمت حديثها بتذكير الحضور أن الخيارات الفردية لها أهمية -من المنتجات التي نشتريها إلى الخدمات التي نستخدمها. ووصفت تقريرها الأخير بأنه بمثابة جرس إنذار، داعية إلى اتخاذ إجراءات فورية قبل فوات الأوان.
دور المجتمع المدني في تقويض التواطؤ الاقتصادي والقانوني
اختتم دان دي غرفت الجلسة بالتأكيد على الدور الحيوي الذي يجب أن يضطلع به المجتمع المدني في مواجهة الأسس الاقتصادية للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة في فلسطين. ومعززاً لما طرحه المتحدثون السابقون، أشار إلى أن دور الفاعلين الاقتصاديين في دعم الاحتلال وارتكاب الجرائم الدولية لم يعد موضع شك، كما أن التزامات الدول الثالثة بموجب القانون الدولي باتت واضحة. ومع ذلك، لا تزال الدول الكبرى -والتي تستضيف في كثير من الأحيان فاعلين اقتصاديين متواطئين- تتجنب اتخاذ أي إجراءات فعلية.
وفي مواجهة هذا التقاعس، شدد دي غرفت على ضرورة أن يتخذ المجتمع المدني خطوات حاسمة لجعل الصهيونية والفصل العنصري والإبادة الجماعية غير قابلة للاستمرار كنماذج اقتصادية. وأكد أن ذلك يتطلب عزل إسرائيل بالكامل -اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً- لحرمانها من الوسائل التي تُمكّنها من الاستمرار في ارتكاب الجرائم، مؤكداً على أهمية أن يكون النضال بقيادة الفلسطينيين أنفسهم، ودعا إلى تصعيد أشكال العصيان المدني. وأوضح أن الاستراتيجيات القانونية لا يمكن أن تعمل بمعزل عن الحراك الشعبي، داعياً إلى التنسيق الوثيق مع المنظمات الفلسطينية لتوحيد الجهود القانونية والحقوقية، واستغلال الزخم الناتج عن رأي محكمة العدل الدولية، وقضايا الإبادة الجماعية، ومذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
ودعا دي غرفت إلى استخدام أدوات قانونية مبتكرة -من بينها قوانين مكافحة غسل الأموال- لتعطيل التدفقات المالية المرتبطة بالمستوطنات وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. وسلط الضوء على جهود المركز الأوروبي للدعم القانوني في ملاحقة الشركات المستفيدة من الإبادة الجماعية، مؤكداً أن المسار القانوني ضروري لكنه لا يمثل سوى بداية لمعركة طويلة وشاملة من أجل العدالة.