فوضى السلاح
1. مقدمة: واقع انتشار السلاح
ظاهرة انتشار الأسلحة النارية بين المواطنين في الأراضي الفلسطينية، ظاهرة قديمة حديثة، تخبو حيناً وتشتد أحياناً أخرى، وذلك بحسب الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، فمثلاً: شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة فوضى سلاح أثناء الانتفاضة الثانية (2000 -2005)، وقد ساهم في ذلك تغييب المؤسسات الرسمية وتراجع نفوذها لا سيما الأجهزة الأمنية، بسبب تعرضها لضربات ممنهجة من الاحتلال الإسرائيلي بهدف تدمير البنية التحتية لمؤسسات السلطة الفلسطينية. وقتها استخدم السلاح من قبل مسؤولين نافذين، وأشخاص مؤطرين تنظيمياً، ومواطنين آخرين في فرض الحلول خارج نطاق القانون، وفي الشجارات العائلية، وفي المناسبات الاجتماعية والفصائلية، واحيانا في ارتكاب جرائم والتهديد والابتزاز. وكانت بعض الأسلحة المستخدمة في هذا المشهد تعود لأفراد في الأجهزة الأمنية، وقد عرفت تلك المرحلة بـ "مرحلة الفلتان الأمني". ثم ما لبثت أن تراجعت حدة هذه الظاهرة بسبب ظروف سياسية وأمنية مرَّ بها الشعب الفلسطيني في العام 2007..
لم تؤد تلك الظروف والمواقف الرسمية المعلنة إلى القضاء على ظاهرة انتشار السلاح، وإن نجحت في تخفيف وطأتها والآثار الناتجة عنها مؤقتاً، فالسلاح استمر تدفقه إلى الضفة الغربية، من مصدره الرئيسي بالنسبة للفلسطينيين وهو إسرائيل، مع تغاضي سلطات الاحتلال عن ذلك بل وتشجيعها له في بعض الأحيان، لعلمها بأن هذه الأسلحة لن تستخدم ضد الاحتلال، بل سيستخدمها الفلسطينيون ضد بعضهم البعض، وهذا ما صرح به الناطق الإعلامي باسم الشرطة الفلسطينية لوكالة وطن للأنباء، وهو أيضاً محل إجماع من المتابعين للشأن الفلسطيني ومؤسسات المجتمع المدني. إضافة إلى ذلك، بقي السلاح بأيدي مواطنين معينين هم في الغالب يتبعون الأجهزة الأمنية أو مؤطرين تنظيمياً ويتبعون تنظيم حركة فتح في الضفة الغربية على وجه التحديد، وهو ما أكسبهم نفوذاً كبيراً في المجتمع حتى وإن لم يستخدموا السلاح بصورة مباشرة.
في الآونة الأخير، أخذ الحديث عن ظاهرة انتشار السلاح وسوء استخدامه يتصاعد بدرجة كبيرة في المجتمع الفلسطيني، وذلك بسبب ملاحظة انتشاره الكثيف بين أيدي المواطنين من جديد، واستخدامهم له في الشجارات العائلية وفي المناسبات الاجتماعية والفصائلية، حتى بتنا نشاهد في الوقت الحالي ما يمكن تسميته بسباق تسلح بين المواطنين والعائلات والعشائر في فلسطين، وسباق تسلح آخر بين مسؤولين داخل الحزب الحاكم. الأمر الذي يشكل تهديداً حقيقياً للسلم الأهلي ولحق الأفراد بالأمن الشخصي ولحقهم في الحياة وفي السلامة الجسدية، فقد أودت فوضى استخدام السلاح خلال النصف الأول من العام 2020 فقط بحياة عشرات المواطنين الأبرياء ومثلهم من المصابين، بعضهم سيبقى يعاني طوال حياته لإصابته بعاهة مستديمة نتيجة إصابته بأعيرة نارية في شجار عائلي أو في مناسبة اجتماعية. وفي آخر إحصائية للهيئة المستقلة، تم تسجيل (33) حالة قتل خلال السبعة شهور الأولى من العام 2020، وقع معظمها باستخدام الأسلحة النارية في الشجارات العائلية وفي المناسبات الاجتماعية. بارتفاع غير مسبوق عن الأعوام الخمسة السابقة التي كانت تسجل فيها مثل هذه الأرقام طوال العام وليس فقط في جزء منه. كما وثقت الهيئة خلال النصف الأول من هذا العام مقتل وإصابة عدة مواطنين بأعيرة نارية على يد قوات الأمن نتيجة إساءة استخدام أفرادها للسلاح في مهماتها الرسمية.
2. أسباب وعوامل فوضى السلاح
2-1. الأسباب والعوامل المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي
ترجع أسباب اشتداد فصول هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة وتوغلها في المجتمع الفلسطيني إلى مجموعة من العوامل والظروف المرتبطة بالواقع الفلسطيني، كالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فالاحتلال الإسرائيلي مثلاً معني بانتشار هذه الأسلحة بين أفراد وعائلات المجتمع الفلسطيني، وبخاصة أن إسرائيل هي مصدر الأسلحة التي تدخل الضفة الغربية. كما تشكل الصعوبات التي تواجهها أجهزة إنفاذ القانون في الوصول إلى المناطق التي لا تخضع للسيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية بفعل القيود التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي من الأسباب التي سهلت انتشار السلاح في تلك المناطق وفي مناطق الضفة الغربية عموماً، حيث تمثل تلك المناطق مأوى لتجار السلاح وأصحاب السوابق، ومنها يمارسون تجارتهم بعيداً عن أعين أجهزة إنفاذ القانون. إضافة إلى ذلك، فإن ضعف ثقة المواطنين بمنظومة العدالة وشعورهم بافتقاد الأمن الشخصي وتصاعد الخلافات السياسية بين أعضاء الحزب الحاكم، ساهمت جميعها في الوصول إلى الحالة التي نعيشها.
2-2. الأسباب والعوامل المرتبطة بالملاحقة القضائية
شكل تراخي أجهزة إنفاذ القانون في ملاحقة المتورطين بتجارة السلاح وحيازته واستخدامه بشكل غير قانوني، أحد أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الظاهرة وتوغلها في المجتمع الفلسطيني، فعلى الرغم من أن قانون رقم (2) لسنة 1998 بشأن الأسلحة النارية والذخائر، وهو القانون الذي يعني بتنظيم حمل السلاح في فلسطين، يجرم جميع الصور والمظاهر التي تؤدي إلى فوضى السلاح، بما فيها النص على حظر حمل السلاح في المحلات العامة وفي المؤتمرات والاجتماعات والحفلات العامة والأفراح، والنص على حظر التظاهر بحمل السلاح (مادة 14)، وعلى الرغم كذلك من صدور قرار بقانون جديد يعدل هذا القانون لجهة تغليط العقوبات على المخالفين لأحكامه، إلا أن أجهزة إنفاذ القانون لا تقوم في جميع الحالات بملاحقة المخالفين لأحكام هذا القانون وتقديمهم للعدالة. ومرد ذلك هو أن معظم المخالفين للقانون هم إما أشخاص ذوو نفوذ في السلطة الفلسطينية أو أعضاء في تنظيم حركة "فتح" أو أفراد من الأجهزة الأمنية أو مقربين منهم على الأقل. وبالتالي، لا بد من احترام كامل لمبدأ سيادة القانون كمدخل للقضاء على فوضى السلاح.
3. فوضى السلاح: تهديد للسلم الأهلي ولحقوق الإنسان
إن غض الطرف عن ظاهرة انتشار السلاح بين المواطنين، وسباقات التسلح الملاحظة بين العائلات والمسؤولين النافذين والمتصارعين داخل الحزب الحاكم "حركة فتح" والسلطة الفلسطينية، وعدم تصويب هذا الوضع بهدف القضاء على ظاهرة انتشار السلاح، ينذران بخطر حقيقي على السلم الأهلي والاجتماعي قد تنحدر معه إلى حالة فلتان أمني خارجة عن السيطرة، وتشكل بذات الوقت تهديداً خطيراً لأمن الأفراد الشخصي، ولحقهم في الحياة وفي السلامة الجسدية. وهو ما دعانا في الهيئة المستقلة وبالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني إلى المطالبة بضرورة مواجهة هذه الظاهرة والقضاء عليها واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، لا سيما في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا بفعل جائحة كورونا والوضع الاقتصادي الذي خلفته، واستمرار الإجراءات العنصرية للاحتلال الإسرائيلي بحق الأرض والإنسان الفلسطينيين. وكان آخر هذه الدعوات، قد صدرت عقب اجتماع نظمته الهيئة بحضور ممثلين عن المؤسسات الرسمية بما فيها مجلس الوزراء والأجهزة الأمنية بتاريخ 18 آب 2020.
3. التوصيات
إننا في الهيئة المستقلة وإذ نرحب بتعديل قانون الأسلحة النارية والذخائر لجهة تغليظه العقوبات على المخالفين، وبتصريحات دولة رئيس مجلس الوزراء الذي تعهد فيها بملاحقة من يستخدم السلاح خارج إطار القانون، ومع تأكيدنا على موقفنا القانوني بشأن السلاح الواحد المنضبط بالقانون الذي تحمله الأجهزة الأمنية الرسمية فقط، فإننا نطالب بتفعيل الملاحقة الجنائية ضد المتورطين في المتاجرة وحيازة واستخدام السلاح خارج نطاق القانون باحترام كامل لمبدأ سيادة القانون وإنفاذه في مواجهة الجميع دونما أي اعتبار للمركز التنظيمي أو الوظيفي أو السياسي. ونقدم لهذه الغاية عدة توصيات من شأن الأخذ بها المساهمة في القضاء على ظاهرة انتشار السلاح، وإعمال مسؤولية الدولة وأجهزتها في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم وفي المحافظة على السلم الأهلي والاجتماعي:
- وجود إرادة سياسية جادة لمواجهة ظاهرة انتشار السلاح وسوء استخدامه من خلال الإيعاز بصورة واضحة لأجهزة إنفاذ القانون، لا سيما النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي، في تفعيل الملاحقة الجنائية للمتورطين بمخالفة أحكام قانون الأسلحة النارية والذخائر وإحالتهم إلى المحاكمة، دونما أي اعتبار لنفوذهم السياسي أو العائلي أو التنظيمي.
- مراجعة إجراءات استخدام وحمل الأسلحة من قبل منتسبي أجهزة الأمن بما يضمن الالتزام بتعليمات استخدام الأسلحة النارية ومدونة السلوك ذات العلاقة.
- تفعيل التنسيق والتعاون ما بين أجهزة إنفاذ القانون فيما يتعلق بقضايا حيازة الأسلحة وضبطها ومصادرتها، بهدف الحفاظ على سلامة الإجراءات الجزائية، وصولاً إلى معاقبة الجناة ومصادرة الأسلحة.
- رفع الغطاء التنظيمي عن أي عضو في أي تنظيم سياسي يحوز ويستخدم الأسلحة بالمخالفة لأحكام القانون.
- خلق رأي عام ضاغط ينكر استخدام الأسلحة النارية في المناسبات الاجتماعية والفصائلية.